فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَداعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجًا مُنِيرًا}.
هو إشارة إلى مقام النبي عند ربه، وإلى مكانته في المؤمنين، وأنه هو المرسل من عند اللّه، شاهدا على الناس، بما كان منهم من إيمان أو كفر، ومبشرا المؤمنين بالأجر الكريم، ومنذرا الكافرين بالعذاب الأليم.. وأنه يدعو إلى اللّه، وإلى شريعة اللّه، بما يأذن له به اللّه، فلا يقول شيئا من عنده، وهو- بما يدعو به من آيات ربه- يكشف للناس طريق الحق، ويخرجهم من الظلمات إلى النو.
وفي قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا} إشارة إلى ما كان من أمر اللّه للنبي صلى الله عليه وسلم بالتزوج من مطلقة متبناه.. فهو بهذا الزواج شاهد يرى فيه المسلمون القدوة والأسوة.
وفي قوله تعالى: {وَسِراجًا مُنِيرًا} إشارة أخرى إلى هذا الزواج، أنار للمسلمين طريقهم إلى الحق في هذا الأمر الذي كان قد اختلط فيه الحق بالباطل.. وهذا القيد للشهادة وللسراج المنير، هنا، لا يمنع من إطلاقهما، فالنبى شاهد قائم على كل حق وخير، وهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- سراج منير، يكشف كل باطل وضلا.
قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} هو معطوف على محذوف تقديره: هذا فضل اللّه عليك، فاهنأ به، وبشر المؤمنين كذلك بأن لهم من اللّه فضلا كبيرا.. فهم أتباعك، وأولياؤك.. فإذا كان لك- أيها النبي- هذا العطاء الجزيل من ربك، فإن للمؤمنين حظا من عطاء ربهم، وما كان عطاء ربك محظور.
قال تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا}.
هو معطوف على قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} وفي هذا العطف أمور:
أولا: قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} يفهم منه ضمنا، وأنذر الكافرين والمنافقين بأن لهم عذابا أليما.
وثانيا: قال تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ} يفهم منه ضمنا كذلك، واستجب للمؤمنين واستمع لهم، واقترب منهم، وشاورهم في الأم.
وعلى هذا يكون معنى قال تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ} لا تستمع إليهم، ولا تأمن جانبه.
وقال تعالى: {وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي لا تحفل بما يأتيك منهم من أذى، بالقول أو الفعل، {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فهو الذي يتولى حراستك وحفظك مما يكيدون لك به {وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا} فلا وكالة أقوى ولا أمنع ولا أحفظ من وكالته.. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [3: الطلاق]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)}.
هذا النداء الثالث للنبيء صلى الله عليه وسلم فإن الله لما أبلغه بالنداء الأول ما هو متعلق بذاته، وبالنداء الثاني ما هو متعلق بأزواجه وما تخلل ذلك من التكليف والتذكير، ناداه بأوصاف أودعها سبحانه فيه للتنويه بشأنه، وزيادة رفعة مقداره وبين له أركان رسالته، فهذا الغرض هو وصف تعلقات رسالته بأحوال أمته وأحوال الأمم السالفة.
وذُكر له هنا خمسةُ أوصاف هي: شاهد.
ومبشّر.
ونذير.
وداع إلى الله.
وسراج منير.
فهذه الأوصاف ينطوي إليها وتنطوي على مجامع الرسالة المحمدية فلذلك اقتصر عليها من بين أوصافه الكثيرة.
والشاهد: المخبر عن حجة المدعي المحقّ ودفع دعوى المبطل، فالرسول صلى الله عليه وسلم شاهد بصحة ما هو صحيح من الشرائع وبقاءِ ما هو صالح للبقاء منها ويشهد ببطلان ما ألصق بها وبنسخ ما لا ينبغي بقاؤه من أحكامها بما أخبر عنهم في القرآن والسنة، قال تعالى: {مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه} [المائدة: 48].
وفي حديث الحشر: «يُسأل كل رسول هل بلّغ؟ فيقول: نعم. فيقول الله: مَن يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته». الحديث.
ومحمد صلى الله عليه وسلم شاهد أيضًا على أمته بمراقبة جريهم على الشريعة في حياته وشاهد عليهم في عَرَصات القيامة، قال تعالى: {وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} [النساء: 41] فهو شاهد على المستجيبين لدعوته وعلى المعرضين عنها، وعلى من استجاب للدعوة ثم بَدّل.
وفي حديث الحَوض: «ليَرِدَنَّ عليَّ ناسٌ من أصحابي الحوضَ حتى إذا رأيتُهم وعرفتُهم اختُلجوا دوني فأقول: يا رب أُصَيْحَابي أُصَيْحَابي. فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول تَبًّا وسُحْقًا لمَن أحدث بعدي» يعني: أحدثوا الكفر وهم أهل الردة كما في بعض روايات الحديث: «إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم».
فلا جرم كان وصف الشاهد أشمل هذه الأوصاف للرسول صلى الله عليه وسلم بوصف كونه رسولًا لهذه الأمة، وبوصف كونه خاتمًا للشرائع ومتمّمًا لِمراد الله من بعثة الرسل.
والمبشر: المخبر بالبُشرى والبِشارة.
وهي الحادث المسرّ لمن يخبر به والوعد بالعطية، والنبي صلى الله عليه وسلم مبشر لأَهل الإِيمان والمطيعين بمراتب فوزهم.
وقد تضمن هذا الوصف ما اشتملت عليه الشريعة من الدعاء إلى الخير من الأوامر وهو قسم الامتثال من قسمي التقوى، فإن التقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، والمأمورات متضمنة المصالح فهي مقتضية بشارة فاعليها بحسن الحال في العاجل والآجل.
وقدمت البِشارة على النِذارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم غلب عليه التبشير لأنه رحمة للعالمين، ولكثرة عدد المؤمنين في أمته.
والنذير: مشتق من الإِنذار وهو الإِخبار بحلول حادث مسيء أو قُرْب حلوله، والنبي عليه الصلاة والسلام منذر للذين يخالفون عن دينه من كافرين به ومن أهل العصيان بمتفاوت مؤاخذتهم على عملهم.
وانتصب {شاهدًا} على الحال من كاف الخطاب وهي حال مقدرة، أي أرسلناك مقدَّرًا أن تكون شاهدًا على الرسل والأمم في الدنيا والآخرة.
ومثّل سيبويه للحال المقدرة بقوله: مُررت برجل معه صقر صائِدًا به.
وجيء في جانب النِذارة بصيغة فَعيل دون اسم الفاعل لإِرادة الاسم فإن النذير في كلامهم اسم للمخبر بحلول العدو بديار القوم.
ومن الأَمثال: أنا النذير العُريان، أي الآتي بخبر حلول العدوّ بديار قوم.
والمراد بالعريان أنه ينزع عنه قميصه ليشير به من مكان مرتفع فيراه من لا يسمع نداءه، فالوصف بنذير تمثيل بحال نذير القوم كما قال: {إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} [سبأ: 46] للإِيماء إلى تحقيق ما أنذرهم به حتى كأنه قد حلّ بهم وكأنَّ المخبر عنه مخبر عن أمر قد وقع، وهذا لا يؤديه إلا اسم النذير، ولذلك كثر في القرآن الوصف بالنذير وقلّ الوصف بمنذر.
وفي الصحيح: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أُنزل عليه: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] خرج حتى صعد الصفا، فنادى: يا صباحاه كلمة ينادِي بها من يطلب النجدة فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتُم إن أخبرتكم أن خَيلًا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مُصَدِّقيَّ؟ قالوا: نعم. قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد».
فهذا يشير إلى تمثيل الحالة التي استخلصها بقوله: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».
وما في {بين يدي عذاب} من معنى التقريب.
وشمل اسم النذير جوامعَ ما في الشريعة من النواهي والعقوبات وهو قسم الاجتناب من قسمي التقوى فإن المنهيات متضمنة مفاسد فهي مقتضية تخويف المُقدمين على فعلها من سوء الحال في العاجل والآجل.
والداعي إلى الله هو الذي يدعو الناس إلى ترك عبادة غير الله ويدعوهم إلى اتباع ما يأمرهم به الله.
وأصل دَعاه إلى فلان: أنه دعاه إلى الحضور عنده، يقال: ادعُ فلانًا إليَّ.
ولما عُلم أن الله تعالى منزه عن جهة يحضرها الناس عنده تعين أن معنى الدعاء إليه الدعاء إلى ترك الاعتراف بغيره كما يَقولون: أبو مسلم الخراساني يدعو إلى الرضَى من آل البيت فشمل هذا الوصف أصول الاعتقاد في شريعة الإِسلام مما يتعلق بصفات الله لأن دعوة الله دعوة إلى معرفته وما يتعلق بصفات الدُعاة إليه من الأنبياء والرسل والكتب المنزلة عليهم.
وزيادة {بإذنه} ليفيد أن الله أرسله داعيًا إليه ويسّر له الدعاء إليه مع ثقل أمر هذا الدعاء وعظم خطره وهو ما كان استشعره النبي صلى الله عليه وسلم في مبدأ الوحي من الخشية إلى أن أُنزل عليه {يا أيها المدثر قم فأنذر} [المدثر: 1، 2]، ومثلُه قوله تعالى لموسى:
{لا تخف إنك أنت الأعلى} [طه: 68]، فهذا إذن خاص وهو الإِذن بعد الإِحجام المقتضي للتيسير، فأطلق اسم الإِذن على التيسير على وجه المجاز المرسل.
ونظيره قوله تعالى خطابًا لعيسى عليه السلام: {وتبرىء الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني} [المائدة: 110] وقوله حكاية عن عيسى {فأنفخ فيه فيكون طائرًا بإذن الله} [آل عمران: 49].
وقوله: {وسراجًا منيرًا} تشبيه بليغ بطريق الحالية وهو طريق جميل، أي أرسلناك كالسراج المنير في الهداية الواضحة التي لا لبس فيها والتي لا تترك للباطل شبهة إلا فضحتها وأوقفت الناس على دخائلها، كما يضيء السراج الوقّاد ظلمة المكان.
وهذا الوصف يشمل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من البيان وإيضاح الاستدلال وانقشاع ما كان قبله في الأديان من مسالك للتبديل والتحريف فشمل ما في الشريعة من أصول الاستنباط والتفقه في الدين والعلم، فإن العلم يشبَّه بالنور فناسبه السراج المنير.
وهذا وصف شامل لجميع الأوصاف التي وصف بها آنفًا فهو كالفذلكة وكالتذييل.
ووصف السراج ب {منيرًا} مع أن الإِنارة من لوازم السراج هو كوصف الشيء بالوصف المشتق من لفظه في قوله: شعر شاعر، وليلٌ ألْيَل لإِفادة قوة معنى الاسم في الموصوف بهِ الخاص فإن هدى النبي صلى الله عليه وسلم هو أوضح الهدى وإرشاده أبلغ إرشاد.
روى البخاري في كتاب التفسير من صحيحه في الكلام على سورة الفتح عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عَمرو بن العاص قال: إن هذه الآية التي في القرآن: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا} قال في التوراة: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحِرزًا للأمِّيين، أنت عبدي ورسولي سمّيتك المتوكِّل ليس بفظّ ولا غليظ ولا صَخَّاب في الأسواق، ولا يدفع السيِّئة بالسيئة ولكنْ يعْفو ويصفح أو وَيغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العَوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتحَ أو فيفتح به أعينا عُمْيًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفا. اهـ.
وقول عبد الله بن عمرو في التوراة يعني بالتوراة: أسفار التوراة وما معها من أسفار الأنبياء إذ لا يوجد مثل ذلك فيما رأيت من الأسفار الخمسة الأصليّة من التوراة.
وهذا الذي حدث به عبد الله بن عَمرو ورأيت مقارِبه في سفر النبي أشعياء من الكتب المعبر عنها بالتوراة تغليبًا وهي الكتب المسماة بالعهد القديم؛ وذلك في الإصحاح الثاني والأربعين منه بتغيير قليل أحسب أنه من اختلاف الترجمة أو من تفسيرات بعض الأحبار وتأويلاتهم، ففي الإصحاح الثاني والأربعين منه هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سُرَّتْ به نفسي، وَضَعْتُ رُوحي عليه فيُخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يُسمع في الشارع صوته، قصبة مرضوضة لا تقصف، وفتيلة خامدة لا تطفأ، إلى الأمان يخرج الحق، لا يكلّ ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته أنا الرب قد دعوتك بالبر فأُمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم لنفتح عيون العُمي لتُخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين في الظلمة، أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر.